السبت، 7 مايو 2011

التربية العلمية والوعي بالهوية

التربية العلمية والوعي بالهوية
       بقلم أ.د. محسن مصطفي محمد عبد القادر
     في عصر الثورة العلمية والإعلامية يواجه المجتمع الإنساني صعوبات جمة إذ غدا الكون قرية صغيرة تجوبها عبر الفضاء عشرات الأقمار الصناعية تبث ملايين الرسائل المعرفية والإعلامية تقتحم خصوصيات البشر دون ضابط أو رقيب ، وشاع ما أطلق عليه الغزو الفكري والثقافي ، وأنتشر في العديد من الدول ظواهر مرضية تحت تأثير الثقافات الوافدة ، كما تعرضت الحياة الإنسانية إلي صور من التغير أكبر وأسرع مما تعرضت له في أي عصر من العصور  شمل هذا التغير كل أوجه الأنشطة الإنسانية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية ، وقد استخدمت مفاهيم للتعبير عن هذه التغيرات مثل العولمة  وصراع الحضارات ، والنظام العالمي الجديد ... الخ ، كما فرضت هذه التغيرات نفسها علي المجتمع البشري محدثة فيه صور من القلق والاضطراب ما قد تضح نتائجه بعد فترة قصيرة نظراً لشدة عوامل التفاعل وتأثيراته علي حياة الإنسان.
    والتربية كنشاط إنساني لم يسلم من هذه التغيرات والتطورات فتشير أدبياتها الحديثة إلي أن هناك ثمة اتجاهات تدعو وتفتح الطريق أمام تربية دولية يكون لها دور في إعداد الأفراد للحياة المعاصرة في ظل اقتصاد وعالم معولم  ومستقبل مجهول معالمه ، ومن هذه الاتجاهات عولمة الأهداف التربوية ، تنمية وتطوير الوعي العالمي تكوين ثقافة عالمية  وغيرها من المفاهيم المتعلقة بالشراكة وتقنيات الإنتاج وعالم الاتصال , والمجالات المختلفة للمعرفة والثقافة والفنون.
    وينظر المعنيين والمهتمين بعولمة التربية وأهدافها أنها تستهدف تحقيق الوئام والصداقة والأخوة والسلام بين مختلف شعوب العالم  والأخذ بيد الشعوب التي تعترضها مشكلات تعليمية تحول دون تقدمها ونبذ فكرة الحرب من مناهج التعليم  وغرس فكرة الأخوة ، والتقريب بين أهداف التربية في كل المجتمعات.
     وهناك آراء تقول : أن عولمة التربية هو بمثابة " إمبريالية تربوية    Educational Imperialism" تسعي لتصدير التعليم الغربي إلي دول العالم النامي ، فالهدف منها هو نشر الإمبريالية للغة الإنجليزية بدعوة أنها لغة الاتصال العالمي ، علاوة علي أن المغزى الحقيقي لعولمة التربية لا يؤدي إلي الفهم المتبادل بين الشعوب والدول  بل هو طريق ذا اتجاه واحد One - Way Approach بمعني أن نسبة كبيرة من الأفراد / المتعلمين الذين يتلقون التعليم عبر التربية الدولية يتم تطبيعهم بثقافات الشعوب التي تقدم هذه التربية " ثقافة الغالب والأقوى تكنولوجياً ومعلوماتياً الأمر الذي يستهدف تدمير الهويات القومية الثقافية لدول العالم النامي.
    من هنا يمكن القول أن في كلتا الحالتين سواء كانت عولمة التربية تهدف إلي تحقيق الأخوة والصداقة والتبادل الثقافي ، أو تستهدف تدمير الهويات القومية فإن الوعي بالهوية القومية يصبح ضرورة حتمية لأن في الحالة الأولي يستوجب تبصير الأفراد / المتعلمين بهويتهم القومية وأهمية الحفاظ عليها  فالتمسك بالهوية القومية لا يمكن أن يحول دون تحقيق الأخوة والصداقة هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الوعي بالهوية القومية يصبح ضرورة قصوى لكي يتم التبادل الثقافي  فالتبادل يعني أخذ وعطاء والعطاء الثقافي يتطلب معرفة بالتراث الثقافي والعلمي والفكري والتاريخي والحضاري القومي أي وعي بالهوية القومية فالفرق كبير بين التبادل والانصياع  بين الفحص والتعرف والاختبار ثم الاختيار والانتقاء والتلقيح والمزج والتفاعل والابتكار والإبداع ، وبين التلقي والإذعان والانقياد والتقليد الأعمى والمسخ والاستنساخ المميت.   
أما في الحالة الثانية فإن الوعي بالهوية القومية إذا كان ضرورة حتمية لكل المجتمعات الإنسانية فأنه يصبح أكثر ضرورة للمجتمع العربي ويجب أن تحشد له كل الإمكانات والجهود ، لأن خبرتنا بالعالم الغربي الذي اتصلنا به وفرض وجوده علينا منذ بدء الحملات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية ، والايطالية وغيرها لمعظم البلدان العربية  علمتنا إن هذه الحملات وإن كانت تنطوي علي استعمار عسكري واستيطاني واقتصادي فإنها لا تخلو من غزو فكري ثقافي حضاري استهدف طمس للهوية ، وامتهان للمقدسات  واختراق للفكر، ومحاربة للغة ، وتشويه للتراث ، وتغييب للوعي ، ومحاولة لاقتلاع الجذور الحضارية وتبديد للثروات البشرية ، وقهر للإرادة ، وما دام الأمر كذلك فهي حرب شعواء لا هوادة فيها ولا تهوين لخطورتها وشراستها  ومن ثم فالقضية إذن بهذا التصور وهذه الحدود قضية الأمة كلها لا قضية التربويين أو العلماء دون غيرهم.  
 إن هذه المرحلة التاريخية يمكن أن تُعد مرحلة جديدة تسعي لتأتي باستعمار جديد يستخدم سلاح إبهار الشعوب بالتقدم العلمي والتكنولوجي ، وقضايا الحرية حرية العقائد وحرية الفكر والإبداع والنقد وحقوق الإنسان والمرأة ، كل ذلك لا يخرج عن كونه إعلاناً وتسويقاً لأشياء عظيمة وجميلة ورائعة لدي الآخر ، وفي نفس الوقت هي وسيلة لمحاولة محو ذاكرة الشعوب ، وتغييب وعيها ، وتدمير ثقافتها واستنساخ أجيال جديدة لا تعرف شيئاً عن جذورها ، تبخس ما لدينا تفرغه من قيمة ، تزعزع مبادئه ، هي حرب علي الثقافة القومية وما تمثله من منظومة القيم والعادات والتقاليد وكذلك الدين.
      من هنا يجب أن يوجه كل الاهتمام بالهوية القومية والحفاظ عليها والعمل علي التمسك بوحدة التراث الفكري والثقافي والعلمي للأمة ، يجب أن نقرأ تاريخنا ، يجب أن نري حضارتنا وانجازاتنا العلمية في وجوه أبنائنا ، يجب أن يظل تاريخنا في عقولهم ، يجب أن تمتد جسور التواصل بين هذه الأجيال إلي أبعد نقطة في تراب هذا الوطن.   
    إن المجتمع العربي في الوقت الراهن يمر بظروف بالغة الصعوبة والتعقيد  فإلي جانب الضعف الذي يعيشه ، تتعرض العديد من الدول العربية لكثير من التهديدات والتحديات والصعوبات والأطماع الاستعمارية والرغبة في السيطرة والهيمنة علي مقدراتها وثرواتها واحتلال لموقعها الاستراتيجي  فإن السعي لمساعدة الأفراد / المتعلمين للوعي بالهوية القومية والحفاظ عليها يجب أن يكون من أولويات أهداف البرامج التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية وغيرها من القطاعات المجتمعية.
  والتربية بمختلف أنماطها ليس فقط التربية الوطنية وحدها  والمقررات الدراسية بتعدد أنواعها ليس مقررات الدراسات الاجتماعية فحسب ، مدعوة الآن وبقوة أن تضطلع بأدوارها في تعميق الوعي بالهوية القومية كل حسب فلسفته وأهدافه وطبيعة ومستوي محتواه.
ولما للتربية العلمية من كبير الأهمية ، خاصة في عصر العلم والتقنية والمعلومات الرقمية كان لا بد لها من التأكيد على الركائز الثابتة للهوية العربية والإسلامية والمحافظة عليها  وتعزيز بقائها حتى لا تذوب وسط هذا الزخم الهائل من الأفكار والمعتقدات ، وحتى تتمكن من مجابهة التحديات المفروضة عليها من الشرق والغرب.
     التربية العلمية يجب أن تلعب دوراً مهماً في هذا الإطار وذلك من خلال إعلاء المبادئ والقيم والمُثل العليا المستمدة من الدين الإسلامي التي يقوم عليها المجتمع بشكل عام والمبادئ والقيم الأخلاقية للعلم والعلماء بشكل خاص والتي يجب أن يبني من خلالها المجتمع حياته ويواجه مشكلاته ويحدد مستقبله المنشود ، وعلي التربية العلمية الاعتناء والاهتمام باللغة العربية من خلال الاعتناء بلغة العلم باعتباره أن اللغة العربية  لغة علم قادرة علي استيعاب مصطلحاته ومفاهيمه ومستحدثاته العلمية والتكنولوجية في  مجال اللغة  وكان لها ولازال دور رائد في بناء صرح الحضارة الإنسانية  وعلي التربية العلمية الاعتناء والاهتمام بتاريخ العلم والعلماء العرب والمسلمين ليس فقط عند تقدير دورهم البارز في الحضارة العالمية  وإنما للاستفادة من تربيتهم وأخلاقهم وأساليب حياتهم وتفكيرهم وحبهم للعلم والسعي للتحصيل فيه.
المراجع :
مصطفي علي السيد بركات: " دراسة اتجاهات أعضاء هيئة التدريس بجامعة المنوفية نحو تعريب تعليم العلوم والتقنية كمدخل لمواجهة التحديات المعاصرة ، العولمة وتهديد الهوية القومية.
نازلي صالح ، عبد الغني عبود  : في التربية المقارنة.
السيد عبد العزيز البهواشي : " التربية الدولية والإعداد للحياة المعاصرة  دراسة تحليلية للاتجاهات الحديثة. 
  رشدي أحمد طعيمة  : العولمة ومناهج التعليم العام في : محمود كامل الناقة العولمة ومناهج التعليم العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق